جمعية دراسة الثقافة العربية اليهودية في العصور الوسطى

الثقافة العربية اليهودية؛ ما هي ؟

في القرن السابع الميلادي، أثناء الانتقال من العصور القديمة إلى العصور الوسطى، وقع طارئ في شرق وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط. فيما مضى كانت السيطرة على هذه المنطقة، حتى ذلك الحين، في أيدي إمبراطوريتين، هما الإمبراطورية الفارسية، التي سيطرت على الجزء الشرقي (العراق وإيران وشرقها حاليًا)، والإمبراطورية البيزنطية التي سيطرت على الساحل الشرقي (سوريا وفلسطين) والجنوبي (كامل شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية)، ونلمس التنوّع اللغوي مهيمنًا على هذه المناطق الشاسعة. في الأثناء، انتقلت السيطرة على جميع هذه المساحات الشاسعة إلى إمبراطورية واحدة جديدة، ألا وهي الخلافة الإسلامية. واعتمدت الخلافة الإسلامية اللغوية في نهاية القرن السابع للميلاد على الوحدة اللغوية، بحيث أضحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لغة مؤسّسة الخلافة. كذلك تمتّعت هذه الخلافة بالتنوّع الديني، حيث لم يمنع الحكّام الجدد رعاياهم من التمسّك بمعتقداتهم الدينية المختلفة، بما في ذلك لغات الشعائر والطقوس، أما اللغة المعتمدة في سائر الجوانب الأخرى فكانت اللغة العربية.

عاشت الأغلبية العظمى والهامة من يهود العالم ضمن هذه الحدود الشاسعة، من حيث العدد وأهم المؤسّسات اليهودية، مثل المدارس الدينية الكبرى في العراق وفلسطين. انطبق هذا الانتقال إلى اللغة العربية على اليهود أيضًا، والذين تخلّوا تدريجيًا عن لغاتهم القديمة (الآرامية واليونانية وربما اللاتينية أيضًا) وتحوّلوا إلى اعتماد اللغة العربية. كان الانتقال إلى اللغة العربية بداية على صعيد اللغة المحكية ولغة التواصل في الشئون الحياتية اليومية، وامتد تدريجيًا إلى الحقول الأدبية، مثل ترجمة الكتاب المقدس (على غرار ما حدث سابقًا في اللغات الأخرى)، وثم آداب فقه الشريعة. وبهذا أصبح اليهود في الخلافة الإسلامية جزءًا من مجمل السكان: جميعهم تحدثوا وقرؤوا وكتبوا باللغة ذاتها.

أضحت اللغة العربية في القرن العاشر مستخدمة بالفعل بين الناشطين في حقول العلوم والآداب المنتمين إلى مختلف الفئات السكانية والأديان. كما وأصبح الناطقون باللغة العربية حملة التراث الفلسفي والعلمي الكلاسيكي المترجم إلى العربية. شارك اليهود أسوة بغيرهم في هذه الحركة، ولكن بطريقة فريدة: فمعظم كتابات اليهود باللغة العربية وضعت بالأحرف العبرية.

اعتبرت هذه اللغة الأداة الرئيسة للثورة الكبرى التي طرأت في الثقافة اليهودية منذ بداية القرن العاشر. وبدون التقليل من أهمية مصنّفات الفقهاء السلف في العراق (المكتوبة بالآرامية بالأساس وبعض العبرية)، فقد تغيّر العالم من حولهم. حيث كانت هيمنة اللغة العربية على كافة السكان من مختلف الديانات، الإسلامية واليهودية والمسيحية وغيرها، عاملًا هامًا في هذا التغيّر. لم يكن بوسع اليهود المثقفين تجاهل ما يدور حولهم، فظهرت مؤلّفات جديدة على رفوف المكتبة اليهودية لم يألفها اليهود من قبل. في واقع الأمر، ينبغي القول إن أنواعًا أدبية جديدة قد ظهرت ولم يسبق أن صادفها العالم اليهودي من قبل: تفاسير منهجية للكتاب المقدّس؛ وقواميس تنقل ألفاظًا عبرية توراتية إلى اللغة العربية؛ ونحو اللغة العبرية. وفي حقل فقه الشريعة، ظهرت رسائل خاصة بمواضيع محدّدة مكتوبة بصورة منهجية، واستفاد منها رجال الدين والقائمين على الإفتاء. كما أدّت الوحدة اللغوية من ناحية، واختلاف الانتماءات الدينية بين المتحدثين باللغة العربية من ناحية أخرى، إلى الانشغال (الجدلي أحيانًا) في الفكر الديني. استحدثت الترجمات المسيحية للفلسفة الكلاسيكية مفردات ومصطلحات عربية تغذّي الفكر الديني لدى المنتمين للديانات المختلفة. تكمن أهمية هذه الآداب المختلفة إلى حد كبير في تلبية احتياجات داخل المجتمعات اليهودية المحلية. ومنذ القرن الثالث عشر فصاعدًا، ترجم عدد لا بأس به من هذه الأدبيات من العربية اليهودية إلى العبرية وأضحت جزءًا مهمًا من الثقافة اليهودية في العالم كله، كما وأعيد ترجمة بعضها إلى اللغة العبرية المعاصرة.

إن نطاق هذا الأدب واسع، حيث يصل عدد الأعمال إلى عدة مئات وربما أكثر من ذلك. لم تصلنا جميعها، وقد وصلت في بعض الأحيان أجزاء منها فقط، وهي كثيرة جدًا، والعديد منها لا يزال على شكل مخطوط لم ينشر بعد. ويمكننا ذكر بعض المؤلّفين المشهورين، مثل سعيد بن يوسف الفيومي (سعاديا غاؤون)، ويافت بن عيلي، ومروان (يونا) ابن جناح، وباحيا بن يوسف ابن بقودا، ويهودا اللاوي (صاحب الكتاب الخزري)، وموسى بن ميمون (الرمبام). شكّلت الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والثالث عشر العصر الذهبي الأدبي والفكري للثقافة العربية اليهودية. استخدمت العربية اليهودية طيلة هذه الفترة وحتى العصر الحديث في الحياة اليومية للمؤسّسات العامة وفي الوثائق الشخصية كذلك. يحتفظ بآلاف كثيرة من هذه الوثائق المختلفة المكتوبة بالعربية اليهودية في مكتبات مختلفة حول العالم، وبعضها قد نشر ولا يزال ينشر. كما واستخدمت العربية اليهودية منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن العشرين في كتابة الأدب الشعبي الديني، مثل ترجمات وتفسيرات الكتاب المقدس والمشناه وقصة عيد الفصح. ومنذ القرن التاسع عشر، استُخدمت العربية اليهودية كذلك في الصحافة والمسرح. وأخيرًا، هناك ملاحظة مثيرة للاهتمام: بقي التراث العربي اليهودي القروسطي على قيد الحياة في اليمن حتى القرن العشرين.

اللغة العربية اليهودية

تعتبر العربية اليهودية إحدى اللغات اليهودية، أسوة بالإيديش واللادينو. تشكّلت هذه اللغات من خلال تبنّي اللغات المحلية وإدخال ألفاظ عبرية وآرامية وعناصر يهودية أخرى مختلفة (كأسماء الأعياد والمواعيد وأدوات العبادة والطقوس). دُمجت الكلمات والاصطلاحات المركزية للثقافة اليهودية، إما في شكلها الأصلي العبري والآرامي أو بعد ترجمتها، في اللغة المحلية المكتسبة حديثًا، مما جعلها "يهودية". وبطبيعة الحال، استخدم اليهود في تعاملاتهم مع غير اليهود اللغة المشتركة السائدة فيما بينهم متجاهلين العناصر اليهودية.

تحوّل اليهود الذين خضعوا للخلافة الإسلامية، خلال القرنين السابع والثامن للميلاد، تدريجيًا من الآرامية (في العراق وفلسطين) ولغات أخرى (في شمال إفريقيا) إلى اللغة العربية. ولا تزال اللهجات العربية المختلفة ذات السمات اليهودية على شفاه اليهود حتى العصر الحديث.

كما هو الحال في اللغات اليهودية الأخرى، فإن السمة البارزة للغة العربية اليهودية هي الكتابة بالحرف العبري. وكانت معظم الكتابة اليهودية باللغة العربية توضع بالفعل بالأحرف الأبجدية العبرية، ويمكن القول إن اليهود كانوا يقرؤون ويكتبون بلغة منقحرة. إن عدد الحروف في اللغة العربية أكثر منه في العبرية، وقد تجاوزوا هذه المعضلة من خلال إضافة النقاط على بضع أحرف، كما هو الحال في اللغة العربية نفسها. وحقيقة أن اليهود كتبوا بشكل رئيس بخط لا يمكن لأحد سواهم قراءته، جعل منها لغة قائمة في حد ذاتها بكل المقاييس. كتبت الفئة المتعلمة مصنّفاتها بلغة عربية فصحى رفيعة.

تستند هذه المادةإلى نصوص كتبها كل من حجاي بن شمّاي وأهارون ممان.

للاستزادة حول هذا الموضوع، يُنظر: